قصة ، من : فؤاد البابلي
محمد وأحمد كانا يلعبان فوق كومة تراب سحبتها مياه الأمطار المارة بجانب الخيمة، إنهما يافعان صغيران يبنيان ويحفران ويشكلان، فهناك مساحة ومتسع من فضاء ومكان وزمان لقضاء وقت من اللهو واللعب، لكنهما لاحظا أن الرمال يتغير لونها ألوان، فلم تعد صفراء لامعة بل تميل للون رمادي تارة وبني يقترب من سواد تارة، محمد فطن ذكي تأمل الرمال المتغيرة فلاحظ أنها تتحول وتقوى وتتحجر، ولم تعد طوع أمره مرنة هشة منسابة بل أصبحت كالصلب ...مد يده بين ثنايا بقيت فيجد مفتاحاً عتيقاً يلمع في سواد، لم يعهده من قبل ولم يتخيل أن المفتاح يذكره بحكايا قديمة قالتها جدته عن الدار والحاكورة والعلية لكنه يذكر أو يُذكر له أنه ولد بخيمة وبقي بخيمة ويعيش طفولته بخيمة وقد يعيش مستقبله بخيمة ويقطن بجانبه جيرانه بخيمة. مد يده ببطء نحو المفتاح فسارعه أحمد وأمسك المفتاح الكبير فرحاً وجرى بعيداً عن أخيه فلحقه وهو ينظر للمفتاح المنتصب في قبضة أخيه بحسرة، فإذا بالدار كما هي لم تتغير ولم تتبدل فاقتربا نحو الباب بخطوات ثقيلة فيها ريبة وخوف، لكنه باب ثقيل وثقب باب بعيد ... أدخل أحمد المفتاح وأداره فانساب وتوقف، ضغط بقوة دون جدوى فأمسك محمد المفتاح وأعاد دورته وضغط أكثر فانفتح الباب ! تراجعا ولم يدخلا الدار، لكن نسمة هواء حركت الباب الثابت الكبير فتحرك بكبرياء وأنفة وهما يستمعان لصرير انزلاقه بخشية ووقار دون أن يدخلا ... فضحكا وتحركا ومد كلاهما رأسيهما الصغيرتين نحو الفناء دون أن يحركا قدماهما، ما أجمل المنظر ! ما أجمل ما كنا ! تقدم يا أخي وهيا ولا تخش شيئاً فلن نخسر كثيراً !
- أين أصحاب الدار ؟ وأين ذهبوا ؟
- إنهم يسكنون معنا في الخيام .
- ولم تركوها وسكنوا بعيداً ؟
- تركوها لنا .
- ولم لا نسكن نحن فيها ؟
- إنها تسكن في قلوبنا .
- ادخل ولا تخف .
دخلا فإذا بزيتونة تطل عليهما بأوراقها العابدة المسبحة وشجرة لوز بأعوادها التي تعصى عن الانكسار وشجيرات من برتقال وليمون تنشر في المكان عبقاً ورائحة عطرية رائعة، وحوض من النعناع يُذكر بكوب شاي فاخر ودجاجات وديك وبط يرفرف بجناحين ثقيلين بعد أن زرع رأسه بحوض ماء بجانب البير، وحمام يطير من حولنا معبراً عن فرحه وامتنانه لقدومنا، لقد تحرك المكان بعد ثبات وتحرك الصغيران نحو الفضاء وأدركا الزمان وشعرا بالفرح فالدار الغافية في كتب التراث والذاكرة استيقظت وتحرك مفتاحها وانفتح الباب لأصحابه، وامتزجت الوجوه السمر بالحاكورة والفناء، والصغيران يتأملان كل شيء باندهاش ! فهما في خيمة ويسكن الفراغ دارهما الرحبة .
تقدما ولم يتراجعا وصعدا بخطوات واثقة درج العلية ووقف كلاهما بصمت يتأملان الدار من عل، إنها الآن أجمل فالعيون ثاقبة والرؤية بصيرة مدركة فالدار أغفت على ربوة تحلم بالمجد وبالعز والغار والطفلان يمتشقان الأمل وينظران فلا خيمة ولا مخيم لكنها تلال ومروج فسيحة خضراء وكروم من اللوز والعنب ودور متناثرة بألفة تحتضن المكان وقباب تصلي في هيبة وخشوع . ونظرا إلى قرص الشمس اللامعة تضحك، وأشجار تين خضراء كستها تجاعيد الزمان بثمار سوداء حلوة تبتسم ...
- هيا يا أخي نكتفي بهذا .
- أنكتفي بالحكاية ؟
- لا إنها البداية .
- لنعد إلى الخيمة .
- لكني عدت إلى الدار ولن أبقى في خيمة .