لما قَدِمَ هذا الوفد مكة جَرَتْ بينهم وبين النبي اتِّصالات سرِّيَّة
أدَّت إلى الاتِّفاق على أن يجتمعوا في أوسط أيام التشريق عند العقبة؛
وذلك ليُضَيَّق على مشركي مكة فرصة تتبُّع وفد الأنصار،
أن يتمَّ هذا الاجتماع في سرِّيَّة تامَّة في ظلام الليل؛ حيث لا يراهم أحد،
وقد تمَّ اللقاء المَهِيب عند العقبة، والتي عُرِفَتْ ببيعة العقبة الثانية أو الكبرى
والذي كان من نتائجها أن تغيَّرت خريطة العالم بعد ذلك وقامت للإسلام دولة.
التقى رسول الله بالأنصار في العقبة، وبدأ العباس الكلام،
وكان ما زال مشركًا إلا أنه أحبَّ أن يحضر أمر ابن أخيه، ويتوثَّق له؛
فَبَيَّنَ للأنصار مكانة رسول الله في بني هاشم، ومكانة بني هاشم بمكة،
وأنه لا حاجة له بهم إذا لم يكونوا قادرين على نصرته،
فلم يكن من الأنصار إلا أن قالوا في أدب: قد سمعنا ما قُلْتَ، فتكلَّم يا رسول الله، فخذْ لنفسك ولربِّك ما أحببت.
وهنا بدأ رسول الله يضع بنود البيعة فقال: "تُبَايِعُونَنِي عَلَىالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي النَّشَاطِ وَالْكَسَلِ،
وَعَلَى النَّفَقَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَعَلَى الأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ المنكر
وَعَلَى أَنْ تَقُومُوا فِي اللَّهِ لاَ تَأْخُذُكُمْ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لاَئِمٍ، وَعَلَىأَنْ تَنْصُرُونِي إِذَا قَدِمْتُ إِلَيْكُمْ،
وَتَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَزْوَاجَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ
ويُلاحَظ هنا تلك المفارقة بين ما طلبه رسول الله من الأنصار في بيعة العقبة الأولى
وما طلبه منهم هنا في بيعة العقبة الثانية؛
ففي الأولى كان الرسول يبني فردًا مسلمًا مؤمنًا، يتَّصف بعقيدة سليمة وبأخلاق حميدة،
ولكنه هنا يبني أُمَّة؛ فهو يحتاج لما هو أعلى وأرقى، يحتاج لمكابدة وصبر وقوَّة تحمُّل، ويحتاج لبذل وكفاح ودماء.
وقد ردَّ عليه وفد الأنصار: والذي بعثك بالحق نبيًّا، لنمنعنَّك مما نمنع منه أُزُرَنَا
؛
فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أبناء الحرب، وأبناء الحلقة، ورثناها كابرًا عن كابر.
وقد أراد أحدُ أفراد الوفد أن يستوضح من أمر البيعة فيما يتعلَّق بعَلاقتهم باليهود،
فقام وقال: يا رسول الله، إن بيننا وبين اليهود في المدينة حبالاً وإنَّا قاطعوها،
فهل عسيتَ إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتَدَعَنَا؟
فما كان من رسول الله إلا أن تبسَّم ثم قال: "بَلِ الدَّمَ الدَّمَ، وَالْهَدْمَ الْهَدْمَ، أَنَا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مِنِّي، أُحَارِبُ مَنْ حَارَبْتُمْ وَأُسَالِمُ مَنْ سَالَمْتُمْ
وهنا ولمَّا قام الأنصار يبايعون، قام العباس بن عبادة الخزرجي، وهو من رجال بيعة العقبة الأولى، يخاطب قومه
وكأنه ينبِّههم إلى خطورة ما هم مُقدِمُون عليه، فقال: هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ قالوا: نعم
فقال العباس بن عبادة موضِّحًا لهم: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس،
فإن كنتم ترون أنكم إذا نُهِكَت أموالكم مصيبةً، وأشرافُكم قتلاً أسلمتموه، فمن الآن،
فهو - والله - إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة،
وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نَهْكَة الأموال وقتل الأشراف فخذوه،
فهو - والله - خير الدنيا والآخرة
قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف، فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا؟ قال: "الْجَنَّةُ".
فقالوا جميعًا: ابسط يدك يا رسول الله وهنا أيضًا قام أسعد بن زرارة وأمسك يد رسول الله يبعدها عن أيدي الأنصار، ثم قال محذِّرًا: رويدًا يا أهل يثرب، إنا لم نضرب إليه أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله،
وإن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافَّة، وقتل خياركم، وأنْ تَعَضَّكم السيوف،
فإما أنتم تصبرون على ذلك فخذوه وأجركم على الله
وإما أنتم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه، فهو أعذر لكم عند الله.
فقالت الأنصار: يا أسعد، أمط عنا يدك، فوالله لا نذر هذه البيعة ولا نستقيلها.
يقول جابر بن عبد الله راوي القصة: فقمنا إليه رجلاً رجلاً، فأخذ علينا البيعة يعطينا بذلك الجنة،
حتى النساء - المرأتان اللتان شاركتا في هذه البيعة - بايعتا بيعة الحرب، وكانت مبايعتهما مشافهة بالكلام وليس باليد،ثم قال رسول الله للأنصار: "أَخْرِجُوا إِلَيَّ مِنْكُمُ اثَنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا؛ لِيَكُونُوا عَلَى قَوْمِكُمِ بِمَا فِيهِمْ".
فانتخب الأنصار نوَّابهم بنسبة التمثيل في البيعة، فكان الخزرج يمثِّلون خمسة وسبعين في المائة من المبايعين،
وكذلك كان نوَّابهم يمثِّلون خمسة وسبعين بالمائة من النواب،
وقد قال لهم رسول الله : "أَنْتُمْ عَلَى قَوْمِكُمْ بِمَا فِيهِمْ كُفَلاَءُ كَكَفَالَةِ الْحَوَارِيِّينَ لِعِيسَى بْنِ مَرْيَمَ، وَأَنَا كَفِيلٌ عَلَى قَوْمِي
وعلى الرغم أن رسول الله ومن معه من المؤمنين قد أخذوا كافَّة الاحتياطات لتأمين مكان البيعة،
ونجاحهم بالفعل في الاختفاء عن أعين المشركين، إلا أن إرادة الله شاءت أن يكشف الشيطان لأهل مكة هذا الأمر، فاجتمع زعماء قريش، وكوَّنُوا وفدًا، وذهبوا يخاطبون رئاسة الوفد اليثربي
والمتمثِّلة في عبد الله بن أُبيّ بْنِ سلول المشرك، الذي كان لا يدري شيئًا عن أمر البيعة،
فقالوا: "يا معشر الخزرج، إنه قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا،
وتبايعونه على حربنا، وإنه والله ما من حيٍّ من العرب أبغض إلينا من أن تَنْشَبَ الحرب بيننا وبينهم منكم".
وهنا هبَّ مشركو يثرب يدافعون عن أنفسهم، فقالوا: نحلف بالله ما كان من شيء، وما علمناه
فاقتنع وفد مشركي مكة وعادوا، ولكنهم قاموا ببعض التحرِّيَّات فعلموا أن الخبر صحيح، فأسرعوا إليهم ليدركوهم، فوجدوا أن الحجيج قد نفروا، فأسرعوا وراءهم فرأوا عن بُعْدٍ سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو رضي الله عنهمافطاردوهما، فاستطاع المنذر بن عمرو أن يهرب، فأمسكوابسعد بن عبادة سيد الخزرج،
فقيَّدوه بالحبال وربطوا يده على عنقه، وجعلوا يضربونه ويجرُّونه ويجذبونه من شعره حتى أعادوه إلى مكة،
فجاء المطعِم بن عدي والحارث بن حرب بن أمية فخلَّصاه من أيديهم؛ إذ كان سعد يُجِير لهما قوافلهما المارَّة بالمدينة، وتشاورت الأنصار حين فقدوه أن يكروا إليه، فإذا هو قد طلع عليهم، فوصل القوم جميعًا إلى المدينة،
وبدءوا يمهِّدون الوضع هناك لاستقبال الرسول ليؤسِّسُوا النواة الأولى للعاصمة الأولى في الإسلام: المدينة المنورة
هذا، وبعد أن نجحت بيعة العقبة الثانية، وأصبح الأنصار يمثِّلون عددًا لا بأس به في المدينة المنوَّرة
وَقَبِلوا أن يستقبلوا رسول الله ويحموه، صدر الأمر النبوي لجميع المسلمين القادرين على الهجرة
أن يهاجروا إلى يثرب، ولم يبدأ هو في الهجرة إلا بعد أن هاجر الجميع إلى المدينة.
على أن معنى الهجرة هنا لم يكن يعني إلا التضحية بالأموال، وإهدار المصالح،
مع الإشعار بالهلكة في أوَّل الطريق أو نهايته،
وبأن المهاجر إنما يسير نحو مستقبل مبهم لا يدري ما يتمخض عنه من قلاقل وأحزان فيما بعد.