فيه مسألتان :
الأولى : قوله تعالى : " ربنا لا تزغ قلوبنا" في الكلام
حذف تقديره يقولون . وهذا حكاية عن الراسخين . ويجوز أن يكون المعنى قل يا
محمد ، و يقال : إزاغة القلب فساد وميل عن الدين ، فكانوا يخافون وقد هدوا
أن ينقلهم الله إلى الفساد ؟ فالجواب أن يكونوا سألوا إذ هداهم الله ألا
يبتليهم بما يثقل عليهم من الأعمال فيعجزوا عنه نحو و لو أن كتبنا عليهم أن
اقتلوا أنفسكم أنو اخرجوا من دياركم .
قال ابن كيسان : سألوا ألا
يزيغوا فيزيغ الله قلوبهم ، نحو: " فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم" أي ثبتنا
على هدايتك إذ هديتنا و ألا نزيغ فنستحق أن تزيغ قلوبنا . و قيل : هو منقطع
مما قبل ، وذلك أنه تعالى لما ذكر أهل الزيغ عقب ذلك بأن علم عباده الدعاء
إليه في ألا يكونوا من الطائفة الذميمة التي ذكرت وهي أهل الزيغ . وفي
الموطأ عن أبي عبد الله الصنابحي أنه قال قدمت المدينة خلافة أبي بكر
الصديق فصليت وراءه المغرب ، فقرأ في الركعتين الأوليين بأم القرآن و سورة
من قصار المفصل ثم قام في الثالثة ، فدنوت منه حتى إن ثيابي لتكاد تمس
ثيابه فسمعته يقرأ بأم القرآن و هذه الآية " ربنا لا تزغ قلوبنا" الآية .
قال العلماء : قراءته بهذه الآية ضرب من القنوت لما كان فيه من أمر أهل
الردة و القنوت جائز في المغرب عند جماعة من أهل العلم ، وفي كل صلاة أيضا
إذا ذهم المسلمين أمرا عظيم يفزعه ويخافون منه على أنفسهم . ورواه الترمذي
في حديث شهر ابن حوشة قال قلت لأم سلمة : يا أم المؤمنين ما كان أكثر دعاء
رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان عندك ؟قالت : كان أكثر دعاء " يا
مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك " فقلت يا رسول الله ما أكثر دعاءك يا مقلب
القلوب ثبت قلبي على دينك . قال : " يا أم سلمة إنه ليس آدمي إلا
وقلبه بين أصبعين من أصابعي الله فمن شاء أ قام ومن شاء أزاغ" . فتلا معاذ "
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا " . قال : حديث حسن . وهذه الآية حجة
على المعتزلة في قلوبهم : إن الله لا يضل العباد . ولو لم تكن الإزاغة من
قبله لما جاز شان يدعى في دفع ما لا يجوز عليه فعله . وقرأ أبو واقد لجراح "
لا تزغ قلوبنا" . بإسناد الفعل إلى القلوب ، وهذه رغبة إلى الله تعالى . و
معنى الآية على القراءتين ألا يكون منك خلق الزيغ فيها فتزيغ .
الثانية
: قوله تعالى : " وهب لنا من لدنك رحمة " أي من عندك ومن قبلك تفضلا لا عن
سبب منا و لا عمل . وفي هذا استسلام وتطارح . وفي لدن أربع لغات : لدن
بفتح و بضم اللام وجزم الدال وفتح النون ، وبفتح اللام و سكون الدال و فتح
النون . ولعل جهال المتصوفة وزنادقة الباطنية يتشبثون بهذه الآية و أمثالها
فيقولون : العلم ما وما وهبه الله ابتداء منم غير كسب ، و النظر في الكتب و
الأوراق حجاب . و هذا مردود على ما يأتي بيانه في هذا الموضع و معنى الآية
: هب لنا نعيما صادرا عن الرحمة ، لان الرحمة راجعة إلى صفة الذات فلا
يتصور فيها الهبة . يقال : وهب يهب ، و الأصل يوهب بكسر الهاء . ومن قال :
الأصل يوهب بفتح الهاء فقد أخطأ ، لأنه لو كان كما قال لم تحذف الواو ، كما
لم تحذف فيه يوجل . و إنما حذفت الواو لوقوعها بين ياء وكسرة ، ثم فتح بعد
حذفها لأن فيه حرفا من حروف الحلق .