السؤال
قوله تعالى: (السائحون) ما المقصود بالسياحة هنا ؟
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فأكثر العلماء أن السياحة هي الصيام، لأن فيه ترك الملاذ والطيبات، وما تميل إليه النفس من الطعام، والشراب، والجماع، والشهوة، فكان أشبه بالسياحة التي هي التنقل في الأرض، والتقلب في فجاجها، والبعد عن البلاد، وترك ما تهواه النفس من لذة الظلال والفيء، والاقتران بالأهل والأحباب، ففي الصيام شبه بهذه السياحة، لما فيه من إبعاد النفس عن مستلذاتها. وقد فسر السياحة هنا بالصيام جماعة من السلف، منهم ابن مسعود ومجاهد وسعيد بن جبير وعطاء وأبو عبد الرحمن السلمي والضحاك بن مزاحم وسفيان بن عيينة وغيرهم، وروى عن ابن عباس قال: كل ما ذكر الله في القرآن السياحة هم الصائمون. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سياحة هذه الأمة الصيام. وقال الحسن البصري السائحون الصائمون شهر رمضان.
وقال أبو عمر العبدي: السائحون الذين يديمون الصيام من المؤمنين. وروى ابن جرير عن أبي هريرة مرفوعًا : السائحون هم الصائمون والراجح أنه موقوف، وروي عن عبيد بن عمير مرسلا: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن السائحين فقال : (هم الصائمون) وهو مرسل جيد. وهناك قول آخر أن المراد بالسياحة الجهاد، فقد روى أبو داود أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يأذن له في السياحة فقال : (سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله) وذكر ابن المبارك أن السياحة ذكرت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : (أبدلنا الله بذلك الجهاد في سبيل الله، والتكبير على كل شرف) وروي عن عكرمة في السائحين: هم طلبة العلم. رواه ابن أبي حاتم وروي أيضًا عن ابن زيد فقال: هم المهاجرون.
فأما قول الله تعالى: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فالمراد بها المشركون الذين لم يدخلوا في الإسلام وقت نزول أول هذه السورة، والصحيح أن أهل العهد يبقون إلى آخر مدتهم، لقول الله تعالى: (إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ)، وقوله تعالى: (إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ). أي اتركوهم حتى تنقضي مدة المعاهدة، ثم بعد ذلك يحل لكم قتالهم أو يسلمون، فأما من لم يكن لهم عهد فهم الذين قال لهم: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ أي اذهبوا حيث شئتم، وتنقلوا في الأرض، وتحصنوا بما شئتم، فإن انقضت الأربعة الأشهر ولم تسلموا فقد حل قتالكم، فأمرهم أن يسيحوا في الأرض أي أباح لهم الذهاب حيث شاءوا آمنين، فالسياحة هنا هي الذهاب في أرجاء الأرض إن لم يسلموا.
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم أباح أو فضل الانفراد والعزلة في زمن الفتنة، كما في قوله صلى الله عليه وسلم : (وشك أن يكون خير مال أحدكم غنمًا يتبع بها شعف الجبال، ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن) والمراد إذا كثرت الفتن في الدين، والشبهات التي يروجها المضللون، ويخاف على ضعاف الإيمان الانخداع بها، فالهرب في الشعاب ومواضع القطر أسلم للإنسان، وكذا لو خاف المسلم على نفسه من فتنة الشهوات، وزهرة الدنيا، والانهماك في الشهوات التي قد تجر إلى المحرمات، كالصور الفاتنة، والأفلام الخليعة، فإن الفرار بالدين للسلامة من تلك الفتنة أولى بالسلم، ليسلم على دينه وعرضه، وعلى أولاده وأهليه من الوقوع في تلك المحرمات، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد