شاعر يشتم نفسه
د. بدر عبد الحميد هميسه
بسم الله الرحمن الرحيم
كان شعر الهجاء منتشراً في الجاهلية يتخذه الشاعر غرضا للدفاع عن نفسه وعن قومه , كما يتخذه هدفاً للكسب وتحصيل الأموال , ورغم خفوت شعر الهجاء مع ظهور الإسلام واقتصاره على الرد والمنافحة عن الإسلام ونبيه ضد مطاعن شعراء الكفر والضلال إلا أن بعض الشعراء تمسكوا بهذا اللون من الشعر , ولم يستمعوا إلا تحذير الإسلام لهم بعدم سباب الناس أو الخوض في أعراضهم , ومن هؤلاء الشعراء , الشاعر الحُطَيئَة ( المتوفى سنة 45 هـ ) واسمه :جرول بن أوس بن مالك العبسي، أبو ملكية , وهو شاعر مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام. وكان هجاءاً عنيفاً، لم يكد يسلم من لسانه أحد.
ولقد كان الحطيئة فاسد الدين، سطحي العقيدة، وكان من قبل قد اسلم ثم ارتد ولم تعلم له وفادة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا صحبة له، ولعل مما جعله يتهم برقة دينه دفاعه عن الوليد بن عقبة الذين اتهم بشرب الخمرة والعبث في الصلاة.
ولقد اشتهر الحطيئة من بين شعراء عصره بالهجاء والشتم , وكأن هذه الطبيعة المنحرفة فيه لم يغير الإسلام منها شيئا , بل بقي على حاله , وقد سبب له لسانه السليط متاعب كثيرة , فمما يروى أن الزبرقان بن بدر بن امرئ القيس حينما سار إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بصدقات قومه، لقيه الحطيئة ومعه أهله وأولاده يريد العراق فراراً من السنة والجدب وطلباً للعيش، فأمره الزبرقان أن يقصد أهله وأعطاه أمارة يكون بها ضيفاً له حتى يلحق به، ففعل الحطيئة، وأكرمه أهل الزبرقان غاية الإكرام , ولكنه لم يحفظ الجميل بل رده بأن هجاه وشنع عليه فقال:
مـا كان ذنب بغيض أن رأى رجلاً * * * ذا حاجةٍ عاش في مستوعرٍ شاسِ
جـاراً لـقومٍ أطالوا هون منزله * * * وغـادروه مـقيماً بـين أرماسِ
مـلَّـوا قِـراهُ وهـرَّته كـلابهُمُ * * * وجـرحـوه بـأنيابٍ وأضـراسِ
دع الـمكارم لا تـرحل لـبغيتها * * * وأقـعد فـأنت الـطاعم الكاسي
فشكاه الزبرقان إلى عمر، فسأل عمر حسان بن ثابت عن قوله إنه هجو، فقال حسان : ما هجاه يا أمير المؤمنين ، قال فماذا صنع به ؟ قال سلح عليه ، فقال عمر : علي بجرول ، فلما جئ به قال له : يا عدو نفسه تهجو المسلمين فأمر به فحبسه عمر في مطمورة . فأرسل إليه معتذرا ومستعطفا :
مَاذَا تَقُولُ لأَفْرَاخٍ بِذِي مَرَحٍ * * * زُغْبِ الْحَوَاصِلِ لا مَاءٌ وَلا شَجَرُ
أَلْقَيْت كَاسِيَهُمْ فِي قَعْرِ مُظْلِمَةٍ * * * فَاغْفِرْ عَلَيْهِ سَلامُ اللَّهِ يَا عُمَرُ
أَنْتَ الإِمَامُ الَّذِي مِنْ بَعْدِ صَاحِبِهِ * * * أَلْقَتْ عَلَيْك مَقَالِيدَ النُّهَى الْبَشَرُ
لَمْ يُؤْثِرُوك بِهَا إذْ قَدَّمُوك لَهَا * * * لَكِنْ لأَنْفُسِهِمْ كَانَتْ بِك الأَثَرُ
فَامْنُنْ عَلَى صِبْيَةٍ بِالرَّمْلِ مَسْكَنُهُمْ * * * بَيْنَ الأَبَاطِحِ يَغْشَاهُمْ بِهَا الْعُذْرُ
أَهْلِي فِدَاؤُك كَمْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ * * * مِنْ عَرْضِ دَاوِيَّةٍ يُعْمَى بِهَا الْخَبَرُ
فَحِينَئِذٍ كَلَّمَهُ فِيهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ رضي الله عنه وَاسْتَرْضَاهُ حَتَّى أَخْرَجَهُ مِنْ السِّجْنِ ثُمَّ دَعَاهُ فَهَدَّدَهُ بِقَطْعِ لِسَانِهِ إنْ عَادَ يَهْجُو أَحَدًا .انظر : الصفدي: الوافي بالوفيات 11/55, ابن الأثير الجزري : أسد الغابة 2/292,ابن عبد البر : لاستيعاب في معرفة الأصحاب 2/522.
ولم يسلم أحد من قومه من لسانه الشتام فقال يذكر إبله وكثرة شحومها:
عظام مقيل الهام غلب رقابها * * * يباكرن جرع الماء في السبرات
مهاريس يروي رسلها ضيف أهلها * * * إذا النار أبدت أوجه الخفرات
يعني شدة الشتاء مع الجدوبة، يقول: فهذه الإبل لا تجرع من برد الماء لسمنها واكتناز لحومها وقد كان ذكر في هذه القصيدة قومه فنال منهم فقال :
فإن يصطنعني اللّه لا أصطنعكمُ * * * ولا أعطكم مالي على العثراتِ
لَعَمْرِي لقد جَرَّبْتُكُمْ فَوَجَدْتُكُمْ * * * قِبَاحَ الوُجُوهِ سَيِّىء العَذِرَاتِ
وجدتكمُ لم تجبُروا عظم مغرمٍ * * * و لاتنحرون النّيب في الجحراتِ
فقال له عمر فيما يروى: بئس الرجل أنت تهجو قومك وتمدح إبلك , فخرج وقال:
رأيتُ ابنَ خطاب تجاهل بعدما * * * رأيتُ له عقلاً وما كان جاهلا
ألا قد علمنا أن ما قال هكذا * * * ومن قال حقاً غَيرَ ما قال باطلا
راجع : غريب الحديث لابن سلام 1/184 , العسكري : ديوان المعاني 1/10.
وأكرمه رجل وأحسن إليه فقال فيه :
منحَت، ولم تبخلْ، ولم تعطِ طائلاً * * * فسّيان لا ذمٌ عليك ولا حمدُ
ولقد هجا أقرب الناس إليه فهجا امرأته فَقَالَ :
أطوّف ما أطوّفُ ثم آوي * * * إلى بيتٍ قَعيدته لَكاعِ
وقيل أنه هجاه أيضا بقوله :
لَهَا جِسْمُ بُرْغُوثٍ وَسَاقُ بَعُوضَةٍ * * * وَوَجْهٌ كَوَجْهِ الْقِرْدِ بَلْ هُوَ أَقْبَحُ
تَبْرُقُ عَيْنَاهَا إذَا مَا رَأَيْتَهَا * * * وَتَعْبِسُ فِي وَجْهِ الْجَلِيسِ وَتَكْلَحُ
لَهَا مضحك كَالْحَشِّ تَحْسِبُ أَنَّهَا * * * إذَا ضَحِكَتْ فِي أَوْجُهِ النَّاسِ تَسْلَحُ
إذَا عَايَنَ الشَّيْطَانُ صُورَةَ * * * وَجْهِهَا تَعَوَّذَ مِنْهَا حِينَ يُمْسِي وَيُصْبِحُ
وقال في أبيه وعمه وخاله :
لـحـاك الله ثــم لـحــاك حـقـا * * * أبـا ولحــاك مـن عـم وخــال
فنعم الشيخ أنت لدى المخازي * * * وبئس الشيخ أنت لدى المعالي
وهجا أمه بقوله :
تَنَحِّي فَاجْلِسِي عَنِّي بَعِيدًا * * * أَرَاحَ اللَّهُ مِنْك الْعَالَمِينَا
أغربالا إذَا اُسْتُوْدِعَتْ سِرًّا * * * وَكَانُونَا عَلَى المتحدثينا
حَيَاتُك - مَا عَلِمْت - حَيَاةَ سُوءٍ * * * وَمَوْتُك قَدْ يُسِرُّ الصَّاحِبِينَا
ويروي عنه أنه رغب في قول الهجاء فلم يجد من يطلق عليه سهام هجائه وشتمه فضاق ذرعا فلم يجد إلا نفسه يهجوها ويشتمها فقال:
أَبَتْ شَفَتَايَ الْيَوْمَ إلا تَكَلُّمًا * * * بِسُوءٍ فَمَا أَدْرِي لِمَنْ أَنَا قَائِلُهُ ؟
أَرَى لِي وَجْهًا قَبَّحَ اللَّهُ خَلْقَهُ * * * فَقُبِّحَ مِنْ وَجْهٍ وَقُبِّحَ حَامِلُهُ
ويقال أنه لّما حضرت الحطيئة الوفاة أجتمع أصحابه إليه وطلبوا منه أن يوصي قبل وفاته فقال لهم : ويل للشعر من راوية السوء .
قال له أحد أصحابه : أوصي يا حطيئة رحمك الله ,قال: أوصيكم بأن تبلغوا قبيلة غطفان بأن الشمَّاخ هو أشعر العرب لقوله :
إذا أنبض الرامون عنها ترنََمت* * * ترنم ثكلى أوجعتهـا الجنائـز
قالوا: له أوصي بما ينفعك,قال : أوصيكم بأن تبلغوا أهل ضابىء أن شاعرهم ضابىء هو أشعر العرب لقوله :
لِكَلّ جديـد لـذّة غيرأننـي* * * رأيت جديد الموت غير جديد
قالوا له : ويحك يا حطيئه أوص بما ينفعك في آخرتك.قال : أوصيكم بأن تبلغوا أهل امرىء القيس أنه أشعر العرب لقوله :
فيا لك من ليل كأنّ نجومه* * * بكلّ مغار الفتل شُدَّت بيذبُلِ
فضحك القوم من تصرفه هذا رغم مشاهدتهم له يحتضرعلى فراش الموت .فقال له أحدهم : اتّق الله ودع عنك هذا وأوص ,قال : أوصيكم أن تبلغوا الأنصار أن صاحبهم أشعر العرب لأنه القائل :
يغشون حتى ما تهرّ كلابهم * * * لا يسألون عن السواد المقبل
قال له صاحبه وكأنه قد ملّ من تصرف الحطيئه : والله هذا لا يغني عنك شيئاً يا حطيئة فاتق الله وقل غير هذا .
فالتفت الحطيئه إليهم وقال :
الشعر صعب وطويل سلمّه* * * إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه
زلّت به إلى الحضيض قدمه * * * يريد أن يعربـه فيعجمـه
حين رأوا أن لا فائدة من نصحه وأنْحَسَرَ الجدّ من مجلسهم سأله أحدهم :من أشعر الناس يا أبا مليكه ؟قال مشيراً إلى فمه هذا الجحير إذا طمع في خير ,وسأله آخر قائلاً : يا حطيئة بماذا توصي الفقراء ؟ قال : أوصيهم بالإلحاح في المسألة فإنها تجارة لا تبور ,فسأله مرة أخرى : وبماذا توصي اليتامي؟ قال : كلوا أموالهم وانكحوا أمهاتهم
حين شعرالقوم أن لا فائدة من نصحه قرروا الانصراف عنه فسألوه قبل خروجهم : هل تريد منّا شيئاً قبل انصرافنا ؟.قال : نعم ـ تحملوني على بغل وتتركوني راكبها حتى أموت فإنا الكريم لا يموت على فراشه والبغل مركب لم يمت عليه كريم قط .هنا أحضر أصحابه بغلاً وحملوه عليه وجعلوا يذهبون به ويجيئون حتى مات وكان
آخر ما قاله قبل أن يلفظ أنفاسه :
لا أحدُ الأمُ من حُطَيَّـه
هجا بنيه وهجا الُمرَيَّـه
من لؤمه مات على فُريَّه
وهكذا ظل هذا الشاعر عمره يترك لسانه منبسطاً على الناس يسب هذا , ويشتم ذاك , حتى مات وهو يشتم نفسه .