حضارتنا الإسلامية الناصعة البيضاء, والتي امتدت للعالم بالخير والحب والسلام, والتي نشرت قيم الحرية والعدالة والديمقراطية, والتي كانت مصباحًا يضيء للعالم بكافة العلوم والاكتشافات, والتي حاول أعداءها عن عمد طمس هويتها, والقضاء على دورها الحضاري, والقضاء على ثرواتها ومواردها, ولكن الله عز وجل جعل لهذه الحضارة نورًا يمتد في آفاق العالم شرقًا وغربًا, شمالًا وجنوبًا, يمتد عبر الأزمان والعصور, كلما أصابته كبوة عاد إلى النور واليقظة من جديد, فهذا قدر الله عز وجل أن جعل هذه الأمة “خير أمة أخرجت للناس” (1), واصطفى أهلها على سائر الأمم “هو اجتباكم”(2) “وفي هذا ليكون الرسول شهيدًا عليكم وتكونوا شهداء على الناس”(3).
أذن الله عز وجل أن تخمد كل الحضارات وتخبو كل الإمبراطوريات, ولكن هذه الحضارة لا تخبو ولا تندثر, لأن الله عز وجل جعل فيها معايير الحياة, وخصائص البقاء, والتي بدونها لا تنهض الدنيا ولا تستقيم الحياة.
وقد اشتملت الحضارة الإسلامية على جوانب عدة تستحق الفخر والتقدير, سبقت فيها الإنسانية عبر تاريخها, ومن هذه الجوانب التي نسلط عليها الضوء “الوقف الإسلامي”, وكيف كان رحمة للإنسان والحيوان وكل الكائنات.
فقد مضى المواسون من المؤمنين(4) – بدافع الرحمة التي قذفها الله في قلوبهم, والرغبة في مثوبة الله لهم, وألا ينقطع عملهم بعد موتهم – يقفون أموالهم كلها أو بعضها على إطعام الجائع, وسقاية الظمآن, وكسوة العريان, وإيواء الغريب, وعلاج المريض, وتعليم الجاهل, ودفن الميت, وكفالة اليتيم, وإعانة المحروم, وعلى كل غرض إنساني شريف, بل قد أشركوا في برهم الحيوان مع الإنسان.
ولقد تأخذ أحدنا الدهشة وهو يستعرض حجج الواقفين ليرى القوم في نبل نفوسهم, ويقظة ضمائرهم, وعلو إنسانيتهم, بل سلطان دينهم عليهم, وهم يتخيرون الأغراض الشريفة التي يقفون لها أموالهم, ويرجون أن تُنفق في سبيل تحقيقها هذه الأموال.
وربما استشرفت النفوس إلى أمثلة من هذا البر يُعين ذكرها على تفصيل هذا الإجمال. فإلى هذه النفوس المستشرفة أسوق هذه الأمثلة:
وقف الزبادي:
وقف تُشترى منه صحاف الخزف الصيني, فكل خادم كُسِرَت آنيته, وتعرَّض لغضب مخدومه, له أن يذهب إلى إدارة الوقف فيترك الإناء المكسور, ويأخذ إناءً صحيحًا بدلًا منه.
وقف الكلاب الضالة:
وقف في عدة جهات يُنفق من ريعه على إطعام الكلاب التي ليس لها صاحب استنقاذًا لها من عذاب الجوع, حتى تستريح بالموت أو الاقتناء.
وقف الأعراس:
وقف لإعارة الحُلي والزينة في الأعراس والأفراح, يستعير الفقراء منه ما يلزمهم في أفراحهم وأعراسهم, ثم يعيدون ما استعاروه إلى مكانه, وبهذا يتيسر للفقير أن يبرز يوم عرسه بحُلَّة لائقة ولعروسه أن تجلى في حُلَّة رائقة, حتى يكتمل الشعور بالفرح, وتنجبر الخواطر المكسورة.
وقف الغاضبات:
وقف يؤسس من ريعه بيت, ويعد فيه الطعام والشراب, وما يحتاج إليه الساكنون, تذهب إليه الزوجة التي يقع بينها وبين زوجها نفور, وتظل آكلة شاربة إلى أن يذهب ما بينها وبين زوجها من الجفاء وتصفو النفوس, فتعود إلى بيت الزوجية من جديد.
وقف مؤنس المرضى والغرباء:
وقف ينفق منه على عدة مؤذنين, من كل رخيم الصوت حسن الأداء, فيرتلون القصائد الدينية طول الليل, بحيث يُرَتِل كل منهم ساعة, حتى مطلع الفجر, سعيًا وراء التخفيف عن المريض الذي ليس له من يُخَفف عنه, وإيناس الغريب الذي ليس له من يؤنسه.
وقف خداع المريض:
وقف فيه وظيفة من جملة وظائف المعالجة في المستشفيات, وهي تكليف اثنين من الممرضين أن يقفا قريبًا من المريض, بحيث يسمعهما ولا يراهما, فيقول أحدهما لصاحبه: ماذا قال الطبيب عن هذا المريض ؟ فيرد عليه الآخر: إن الطبيب يقول: إنه لا بأس إنه مرجو البرء, ولا يوجد في علته ما يشغل البال, وربما ينهض من فراش مرضه بعد يومين أو ثلاثة أيام.
وهكذا سلك الواقفون كل مسالك الخير, فلم يدعوا جانبًا من جوانب الحياة دون أن يكون للخير نصيب فيه.
أين هذا من دعاة حقوق الإنسان؟ وأين هذا من دعاة الأفكار الغربية؟ وأين هذا من الذين ينشرون التعاليم والمناهج الغربية وينادون بها حلًا لمشاكلنا؟
هذه بعض روائع حضارتنا الإسلامية في مجال واحد من المجالات التي يرفعون فيها شعارات الغرب وكيف أنه حقق للإنسان السعادة الكاملة, واحترم حقوقه حتى حقوق الحيوان, ونحن نقول يا سادة هذه تعاليمنا وهذه أفكارنا فهل من مجيب؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ