بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا، والصلاة والسلام على رسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته.
وبعد، فهذه سطور تبين شيئا من تاريخ نشأة حلقات تحفيظ القرآن الكريم في المملكة العربية السعودية، وتكشف عن جهود قام بها أناس تجمعهم جامعة الإسلام – وإن تناءت بهم البلدان واختلفت الأوطان – في سبيل نشر نور القرآن في هذه البلاد المباركة.
ففي عام1382هـ بدأ تأسيس حلقات تحفيظ القرآن في مكة المكرمة على يد التاجر المبارك محمد يوسف عبد الرحيم سيتهي
ومحمد يوسف هذا تاجر من بلاد الباكستان ، أنشأ حلقات تحفيظ القرآن في شبه القارة الهندية، ثم نقل الفكرة إلى مكة أولا ثم الرياض في السعودية ، ثم نشرها في غيرها من البلاد الإسلامية ،ودعمها بماله وجهده.
وقد لايستقيم السياق التاريخي إلا بالحديث عن شيء من سيرة هذا التاجر المبارك
وهو متضمن للمقصود من ذكر نشأة الحلقات:
والمعلومات التاريخية في هذا المقال مستفادة من الملحق الخاص بترجمة التاجر في كتاب: سبيل الشاكر إلى سيرة الشيخ قارئ محمد ذاكر بقلم: حمدبن مرزوق الروقي
لما صار محمد يوسف من عيون التجار بدأ في مشروعه العظيم في إنشاء حلقات وجمعيات لتحفيظ القرآن الكريم، وكانت طريقته مليئة بالاحتساب والحكمة العظيمة؛ فكان –رحمه الله- يصلي الفجر في أحد المساجد، وبعد الصلاة يقوم أمام المصلين فيحمد الله عز وجل ويثني عليه بما هو أهله ثم يصلي على النبي صلى الله عليه ويسلم ثم يبدأ يعظ الناس ويذكرهم بالله ويحثهم على تعلم كتابه العظيم، ويحثهم على تعليم أبنائهم القرآن الكريم تصحيحا وحفظا. ومن إخلاصه –نحسبه والله حسيبه- كانت جموع المصلين تتأثر كثيرا وتتحفز للعمل بما يقول وإذا قالت جماعة أحد المساجد نحن نرغب ولكن الإمكانيات لا تساعد قال الشيخ محمد يوسف على الفور: ((تحملوا ثلث راتب المعلم السنوي وأنا أتحمل الثلثين)) فإذا تكفل جماعة المسجد بجمع قسطهم شكل الشيخ محمد يوسف على الفور مجلسا للحلقة حتى تبدأ الدراسة في اليوم التالي.
ومن حكمة الشيخ وبعد نظره أنه إذا تكفل أحد جماعة المسجد برواتب المعلم كاملة أنه لا يوافقه بل يطلب مشاركة الجميع كل بحسب طاقته. وقد كان الشيخ يهدف إلى أن يحس جميع جماعة المسجد وأهل القرية عموما بأن المدرسة للجميع. وكان رحمه الله يطلب من مجلس الحلقة أو الجمعية أن ترسل له تقريرا شهريا عن الحلقة أو الجمعية. وبفضل الله أولا ثم بسبب حكمة الشيخ محمد يوسف ومتابعته الدقيقة امتدت شبكة المدارس القرآنية في مدينة (لاهور) ثم وصلت إلى مدينة (هزارة) حتى ارتجت جبال هزارة بدوي تلاوات طلاب الحلقات القرآنية.
وقد كان الشيخ محمد يوسف من التجار المسلمين الموفقين حيث استغل أمواله الطائلة في فتح الحلقات القرآنية في القارة الهندية والباكستانية وفي إحدى الرحلات التجارية إلى لندن قابل الشيخ محمد يوسف كلا من: التاجر عبد الحميد يوري والطبيب الموفق غلام مصطفى إبراهيم، وفي هذا الاجتماع الثلاثي الأخوي ذكّر كل واحد منهم صاحبيه بحقوق الرب الكريم جل وعلا وبوجوب الاستعداد للقاء الله عز وجل. وفي ختام المجلس اتفق الجميع على وجوب العمل للدين. وقرروا أن يكون الاجتماع القادم –إن شاء الله- في مكة المكرمة بيت الله الحرام.
وبعد مدة وجيزة كان اللقاء المرتقب وقرر الجميع فيه ضرورة إنشاء حلقات وجمعيات تعليم القرآن الكريم وتحفيظه بالجزيرة العربية على أن تكون النواة مكة المكرمة، فقام الجميع بجولة على مساجد مكة للاطلاع على واقع الحال فالتقوا بالمصلين وأبناء الأحياء ولاحظوا الضعف على أئمة المساجد حيث لم يكن معظمهم يختم المصحف في صلاة التراويح غيبا فبدؤوا يرغبون الناس في تعلم وتعليم كتاب الله عز وجل وعلى إدخال الأبناء في حلق التحفيظ، وقد كان لبرنامج الشيخ محمد يوسف الثلثي (الثلث على جماعة المسجد والثلثان عليه) عاملا مهما في تسهيل عقد الحلق وافتتاح الجمعيات.
وفي هذا الإطار عقد الشيخ محمد يوسف لقاءا مهما مع التاجر المعروف الشيخ محمد بن لادن رحمه الله وما هي إلا خمس دقائق والشيخ محمد بن لادن رحمه الله مستعد لدعم هذه الحلقات القرآنية المباركة. وبدأ العمل على أشده فبعث الشيخ محمد يوسف خطابا مفصلا لكل من الشيخ المقرئ محمد ذاكر والشيخ خليل الرحمن ( وقد تخرج على يديهما عدد من أئمة الحرمين الموجودن الآن)يطلب فيه مشاركتهما فحرك الخطاب شوق الشيخين المقرئ محمد ذاكر والمقرئ خليل الرحمن للانخراط في هذا العمل المبارك فارتحلا إلى كراتشي ثم إلى الدمام ثم إلى جدة حيث استقلا سيارة إلى مكة المكرمة وتشرفا بأداء العمرة وبعد صلاة العصر مباشرة كان موعد اللقاء بالشيخ محمد يوسف وكان معه الدكتور غلام مصطفى فبادرهما الشيخ محمد يوسف بالسؤال:
ما هو الهدف من مجيئكما؟ هل جئتما لتقيما مدة ثم تعودا لبلادكما أم أنكما جئتما لتموتا على هذه الأرض المباركة في خدمة هذا الكتاب المبارك.
ثم قال: إن كنتما قد جئتما لتقيما وتعملا حتى تدرككما المنية وأنتما على هذا العمل المبارك سيتطور العمل بلا شك وسيؤتي ثماره وأنتما ستستفيدان بإذن الله وإن كان قدومكما لغير ذلك فلن يتحقق ما نسعى إليه؟!
فقالا له على الفور: ((بل جئنا لنعمل في خدمة كتاب الله تعالى حتى الموت)). ففرح الشيخ محمد يوسف فرحا شديدا. وسر وابتهج وشرع الشيخ في عقد الحلق لهما في المسجد الحرام وقد كان الشيخ محمد ذاكر يدرس في ثلاثة أوقات الأولى بعد صلاة الفجر وذلك مقابل الباب اليماني على الحصاة والثانية بعد صلاة العصر والثالثة بعد صلاة المغرب وذلك في ساحة البناء الجديد للمسجد الحرام وبعد مضي سنة كاملة على عقد هذه الحلق القرآنية طلب الشيخ محمد يوسف من الشيخ محمد ذاكر أن ينتقل للتدريس في الجمعية الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم بمنطقة القصيم والتي قد وقع الاختيار لرئاستها والإشراف عليها على فضيلة الشيخ القاضي/ عبد الله بن سليمان الحميد.
وبالفعل باشر الشيخ محمد يوسف التدريس في مدينة بريدة ولما اطمئن الشيخ محمد يوسف على العمل توجه فورا إلى العاصمة السعودية الرياض وهناك التقى بكبار العلماء فالتقى سماحة مفتي الديار السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله كما التقى بسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله والتقى أيضا بالشيخ محمد بن سنان رحمه الله والتقى كذلك بفضيلة الشيخ عبد الرحمن الفريان رحمه الله فجلس مع كل واحد منهم لوحده وأقنعه بضرورة فتح حلقات لتحفيظ القرآن الكريم بالمساجد تعمل تحت إشراف جمعية خيرية وذكر للجميع بأن وقت هذه الحلقات لن يتعارض مع أوقات التعليم النظامي. حيث سيكون وقتها بعد صلاة العصر وقد كان الشيخ محمد يوسف يتحدث في كل هذه اللقاءات باللغة الأوردية وكان المترجم دائما الدكتور غلام مصطفى إبراهيم وفي تلك الأثناء طلب سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله من جميع العلماء الاجتماع للتشاور بخصوص هذا المشروع الجديد وبالفعل تم اللقاء في منزل الشيخ عبد الرحمن الفريان –رحمه الله- وفي أثناء اللقاء أبدى بعضهم التخوف والتحفظ ولكن الشيخ محمد يوسف استطاع أن يقنع الجميع وأسست في الحال جمعية تحفيظ القرآن الكريم بمنطقة الرياض واتفق الجميع على ترشيح فضيلة الشيخ عبد الرحمن الفريان رئيسا لها والشيخ محمد بن سنان نائبا له كما وقع الاختيار على عضوية كل من الشيخ محمد آل جميح والشيخ محمد بن سليمان القاسم.
فشرع الشيخ محمد يوسف في استقدام جملة من المدرسين من البلاد الباكستانية وخلال مدة يسيرة من بدء إنشاء الجمعية واستقدام المدرسين امتدت حلقات التحفيظ القرآنية في جميع أحياء الرياض وضواحيها كما أنشئت أيضا حلقات التحفيظ النسائية الملحقة بالمساجد.
وبعد أن اطمأن الشيخ محمد يوسف على سير الحلقات في الرياض رجع إلى مكة المكرمة واستقر بها للإشراف على سير الحلقات القرآنية بالعاصمة المقدسة وما هي إلا مدة وجيزة حتى شاهد الشيخ محمد يوسف نتيجة عمله الجبار ففي شهر رمضان المبارك أم الناس في صلاة التراويح في مساجد مدينة مكة المكرمة وضواحيها (150) حافظا خلفهم العدد نفسه للفتح عليهم. يقول الشيخ محمد ذاكر – رحمه الله- وهذا العدد من الحفاظ في صلاة التراويح لم يسبق أن حدث مثله في تاريخ الحجاز.
ثم توجه الشيخ محمد يوسف بعد ذلك لإنشاء جمعيات لتحفيظ القرآن الكريم في كل من منطقة المدينة المنورة والمنطقة الجنوبية والمنطقة الشرقية وبعد ذلك قرر الشيخ محمد يوسف التوجه إلى جمهورية لبنان لفتح جمعية خيرية لتحفيظ القرآن الكريم في بيروت ثم توجه الشيخ إلى دولة الكويت حيث أسس الجمعية الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم بها.
و الشيخ محمد ذاكر – رحمه الله- قد قرأ عليه سماحة مفتي المملكة الشيخ عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله عام1386هـ
وعضو هيئة كبار العلماء الشيخ : عبد الكريم الخضير
وأئمة الحرمين : د. صالح بن حميد ، و د. عبد الرحمن السديس ، و د.حسين آل الشيخ، وغيرهم من أعلام المملكة العربية السعودية
بل إن المملكة العربية السعودية قد ارتضت أن يمثلها هذا الشيخ -الذي يعد من الأجانب- شخصيا في المسابقات الدولية في أنحاء العالم كماليزيا والبرازيل والأرجنتين.
وقد كان الشيخ –رحمه الله- يقول: والدي تعلم القرآن في السعودية وعلمه للمسلمين في الهند، و أنا تعلمت القرآن في الهند وعلمته للمسلمين في السعودية