الزوجة الخامسة: زينب بنت جحش:
لم أرَ امرأة قط خيرًا فى الدين من زينب ، وأتقى لله وأصدق حديثًا وأوصل للرحم وأعظم صدقة وأشد تبديلا إلا لنفسها فى العمل الذى تتصدق وتتقرب به إلى الله عز وجل ؟ (4).
هكذا تحدثت أم المؤمنين عائشة - رضى الله عنها– عن " ضرّتها " زينب بنت جحش. أما المبطلون الحاقدون من بعض أهل الكتاب فقالوا:
أُعْجِب محمد صلى الله عليه وسلم ـ وحاشا له - بزوجة متبناه " زيد بن حارثة " فطلقها منه وتزوجها.
ويرد الدكتور هيكل فى كتابه " حياة محمد " (5) صلى الله عليه وسلم على هذا فيقول: إنها شهوة التبشير المكشوف تارة والتبشير باسم العلم تارة أخرى ، والخصومة القديمة للإسلام تأصلت فى النفوس منذ الحروب الصليبية هى التى تملى على هؤلاء جميعًا ما يكتبون.
والحق الذى كنا نود أن يلتفت إليه المبطلون الحاقدون على الإسلام ورسوله صلى الله عليه وسلم.. هو أن زواج محمد صلى الله عليه وسلم من زوجة ابنه بالتبنى زيد بن حارثة إنما كان لحكمة تشريعية أرادها الإسلام لإبطال هذه العادة ـ عادة التبنى ـ التى هى فى الحقيقة تزييف لحقائق الأمور كان لها فى واقع الناس والحياة آثار غير حميدة.
ولأن هذه العادة كانت قد تأصلت فى مجتمع الجاهلية اختارت السماء بيت النبوة بل نبى الرسالة الخاتمة نفسه صلى الله عليه وسلم ليتم على يديه وفى بيته الإعلان العلمى عن إبطال هذه العادة.
وتجدر الإشارة هنا إلى مجموعة الآيات القرآنية التى جاءت إعلاناً عن هذا الحكم المخالف لعادات الجاهلية وتفسيرًا للتشريع الجديد فى هذه ـ المسألة و فى موضوع الزواج بزينب حيث تقول:
(ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين) (6).
(ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم فى الدين ومواليكم ) (7).
(وإذ تقول للذى أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفى فى نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرًا زوجناكها لكيلا يكون على المؤمنين حرج فى أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرًا وكان أمر الله مفعولاً) (
.
مرة أخرى نذكر بأن زواج الرسول صلى الله عليه وسلم من زينب لم تكن وراءه أبدًا شهوة أو رغبة جنسية وإنما كان أمرًا من قدر الله وإرادته لإبطال عادة التبنى من خلال تشريع يتردد صداه بأقوى قوة فى المجتمع الجاهلى الذى كانت عادة التبنى أصلاً من أصوله وتقليدًا مستقرًا فيه ، فكان السبيل لأبطالها أن يتم التغيير فى بيت النبوة وعلى يد الرسول نفسه صلى الله عليه وسلم.
وقد فطنت السيدة " زينب بنت جحش " نفسها إلى هذا الأمر فكانت تباهى به ضراتها وتقول لهن:
" زوجكن أهاليكن وزوجنى ربى من فوق سبع سمَوات " (9).
أما لماذا كان زيد بن حارثة نفسه يتردد على الرسول معربًا عن رغبته فى تطليق زينب ؛ فلم يكن - كما زعم المرجفون - أنه شعر أن الرسول يرغب فيها فأراد أن يتنازل عنها له..
ولكن لأن حياته معها لم تكن على الوفاق أو التواد المرغوب فيه ؛ ذلك أن زينب بنت جحش لم تنس أبدًا ـ وهى الحسيبة الشريفة والجميلة أيضًا أنها أصبحت زوجًا لرجل كان رقيقًا عند بعض أهلها وأنه ـ عند الزواج بها ـ كان مولىً للرسول صلى الله عليه وسلم أعتقه بعد ما اشتراه ممن أسره من قريش وباعه بمكة.
فهو ـ وإن تبناه محمد وبات يسمى زيد بن محمد فى عرف المجتمع المكى كله ، لكنه عند العروس الحسيبة الشريفة والجميلة أيضا ما يزال ـ كما كان بالأمس - الأسير الرقيق الذى لا يمثل حُلم من تكون فى مثل حالها من الحسب والجمال وليس هذا بغريب بل إنه من طبائع الأشياء.
ومن ثم لم تتوهج سعادتها بهذا الزواج ، وانعكس الحال على زيد بن حارثة فانطفأ فى نفسه توهج السعادة هو الآخر ، وبات مهيأ النفس لفراقها بل لقد ذهب زيد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يشكو زينب إليه كما جاء فى البخارى من حديث أنس قال: جاء زيد يشكو إلى الرسول فجعل صلى الله عليه وسلم يقول له: [ أمسك عليك زوجك واتق الله ] (10) قال أنس: لو كان النبى كاتمًا شيئًا لكتم هذا الحديث.
لكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول له كما حكته الآية: أمسك عليك زوجك ولا تسارع بتطليقها.
وزينب بنت جحش هى بنت عمة الرسول صلى الله عليه وسلم - كما سبقت الإشارة – وهو الذى زوجها لمولاه " زيد " ولو كانت به رغبة فيها لاختارها لنفسه ؛ وخاصة أنه رآها كثيراً قبل فرض الحجاب ، وكان النساء فى المجتمع الجاهلى غير محجبات فما كان يمنعه – إذًا – من أن يتزوجها من البداية ؟! ؛ ولكنه لم يفعل.
فالأمر كله ليس من عمل الإرادة البشرية لهم جميعًا: لا لزينب ولا لزيد ولا لمحمد صلى الله عليه وسلم ، ولكنه أمر قدرى شاءته إرادة الله لإعلان حكم وتشريع جديدين فى قضية إبطال عادة " التبنى " التى كانت سائدة فى المجتمع آنذاك.
يؤكد هذا ويدل عليه مجموع الآيات الكريمة التى تعلقت بالموضوع فى سورة الأحزاب.
أما الجملة التى وردت فى قوله تعالىوتخفى فى نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه) (11). فإن ما أخفاه النبى صلى الله عليه وسلم هو كتم ما كان الله قد أخبره به من أن زينب ـ يومًا ما ـ ستكون زوجًا له ؛ لكنه لم يصرح به خشية أن يقول الناس: إنه تزوج زوجة ابنه بالتبنى (12).